هزيلة صورة الدولة الآن، لإنها مازالت تستخدم الجيش كـ"مفتاح" لحل سياسي من جهة، ووجود السلاح خارج إطار الدولة من جهة آخرى. قطعت هذه الصورة الطريق أمام السلم الأهلي، ووفرت فرصاً كبيرة للإنقسام الأجتماعي.
الجيش على مسرح السياسة:
في تفاصيل هذه الصور، سرعان ما تنقلب المعادلات في العراق، تعلن الحكومة عن عزمها القضاء على الإرهاب ومنابعه، لتغدو النتائج معكوسة وتُزيد من منابعه وتوسعه. كانت نتائج عمليات "ثأر القائد محمد" و"وادي حوران"، وغيرها هي انتقال الإرهابيين من الصحراء إلى المدن، وتشكيل مجاميع إرهابية جديدة، توسع في نشاطات الإرهابيين ونفوذهم. وتؤكد المعطيات، أن تحول المعركة مع القوى الإرهابية من صحراء الأنبار إلى مدنها، يعني تحول الأزمة الأمنية إلى أزمة سياسية، يعني فشلاً في الجانب الأمني ونجاحاً في صناعة خصم سياسي.
بدأت الأزمة سياسياً بعد اعتقال أحمد العلواني، واقتحام خيم الإعتصامات، مع حملة اعتقالات ليلية قامت بها قوات "سوات" التابعة لمكتب القائد العام للقوات المسلحة. على اثرها دعا شيوخ عشائر ورجال دين إلى حمل السلاح بحجة "الدفاع عن النفس". واستجابة للدعوة حمل السلاح المئات من الشباب منهم من بقي تحت مظلة "العشائر" ومنهم من لجأ إلى الانخراط في مجاميع جديدة شكلتها "داعش". لم يحملوا السلاح نتيجة موقف سياسي أو ديني معين، فأغلبهم مستواه الفكري ووعيه لايسمح له باتخاذ قرارات مثل هذه. إضافة لدور المناخ السياسي، الذي يتيح لهم الولاء "للهوية السنية"، بقدر ما كانوا يلجأون للايديولوجيات الوطنية او القومية قبل تاريخ 2003، حسب رأي الباحث حارث حسن. وخيارات الشباب المتحمس هي في الحقيقة صنيعة خطاب الجماعة، صنيعة "تسنن" السلطة، التي بدأت بتسويق خطاب أكثر تطرفاً منذ أنطلاق التظاهرات في الأنبار وباقي المحافظات.
ولعل إعلان القوى الدينية والاجتماعية حمل السلاح، كان نتيجة خشيتها من ملاحقة السلطة بعد أن انتهت قضية الاعتصامات ولشعورها بالإفلاس السياسي والخروج منها دون ضمانات ومكاسب سياسية تذكر. مقابل هذا دفعت نوازع السلطة المركزية، والدائرة المحيطة بالقائد العام للقوات المسلحة من مستشارين ولجان - جاءت بهم الولاءات الحزبية والقرابة العائلية - إلى اللجوء للخيار العسكري، الأمر الذي أسهم في تعتيم المشهد وتعميق الأزمة.
إلى جانب تعميم الحكومة مفهوم "داعش" في خطاباتها بدون دقة، وكأنه غدا مفهوماً لتبرير الخيار العسكري الذي تجد فيه مخرجاً لحل الأزمة حسب قناعتها، وهو، في الحقيقة إصرار على "اللاحل"، مما فتح طريقاً لدفع الأهالي إلى الانحياز إلى مواقف أكثر تشدداً وتعصباً. وكما تشير المعطيات إلى أن الخيار العسكري فشل في ايجاد مخرج لإنهاء الأزمة.
رغبة الحكومة في الحل العسكري غير مقنعة إذا كانت فعلاً جادة في القضاء على التكفير والتطرف الديني والإرهاب. المشروع الذي تبنته الحكومة هذا قدم نتائج عكسية، وكلف الحكومة ما يعادل سبعة ملايين دولار يومياً إلى جانب الخسائر البشرية، حيث أدى إلى نزوح نصف مليون عائلة من الرمادي والفلوجة، وإلى مقتل 3 آلاف مدني.
مدن خارج أسوار الحرب:
من يتجول في مدن مثل (عانة، راوة، هيت، حديثة)، يرى عكس ما تنقله له الصورة. نعم، في البداية حاولت القوى الإرهابية الدخول إلى تلك المدن ولكنها فشلت. وكانت هناك تفجيرات واغتيالات لكن بنسب قليلة جداً. إن مدناً مثل (عانة، راوة، هيت، حديثة) خالية من الشعارات الدينية، طابعها غير العشائري ساعدها على أن تكون مدن سلام يلجأ إليها الهاربون من قذائف السلطة وانخراط القوى الإرهابية في مدنهم.
تعامل رجال السلطة وإعلامهم بمبدأ "تعبئة التحيز"، التحيز لإيديولوجياتهم ولمواقفهم تجاه ما يحصل في الأنبار، استطاع نقل صورة للمشاهد بأن الأنبار كلها "إرهاب"، جمدت ذهنيته وجعلته يعتقد بان الأنبار كتلة واحدة، إرهاب واحد يقف أمام الحكومة وقواها الأمنية. مقابل هذا؛ جعلت الحكومة كل من يختلف معها هو "داعش" سواء كان شخصية اجتماعية أو سياسية وحتى إعلامية.
الأنبار ليست كتلة صلبة، حيث هناك من انخرط مع داعش لأنه مقتنع بأنها تحميه وتحمي طائفته، وهناك من بقى تحت اسم "الثوار". مقابل هذا هناك حياة مستقرة خارج أسوار الحرب، وهناك مدنيون يرفضون اللجوء إلى السلاح وإلى العنف. وهناك من يكتفي بسماع صوت سعدي الحلي ومقامات يوسف عمر.
(عانة، وراوة، هيت، وحديثة) مدن وكأنها تريد أن تجعل السياسة من عالم المبدأ، والأخلاق من عالم الممكن، فـ"تصير السياسة من عالم الحلم السعيد بالمدينة" كما يقول الراحل مدني صالح.
أما ما جرى في الفلوجة، فهو يشبه ما جرى لدلالة أسمها ورمزيته، فكان معنى (الفلوجة)، يعني "الأرض الصالحة للزراعة"، تفلح أرضها حين تمسها دماء الأبرياء، لا حين يمسها ماء السماء الطاهر. و"صويحب" الذي كان يزرع النخيل، تطورت مهنته وغدا يزرع العبوات الناسفة. وبالنسبة للرمادي، يكتب أحد المساهمين في كتاب [المكان العراقي]، عن اسمها الأول "تل الرماد" ودلالته، حيث يقول "صحيح أن تل الرماد الأول كان رمزاً لكثرة رماد القدور التي يوقد تحتها الناس النيران في هذه المنطقة، مما لا يجعل هذه الصورة تتفق مع تل الرماد بصورته الحالية التي لاتحيل إلا على الموت والدمار". كلا المدينتين لم تعد مثلما كانتا، لا الأولى بقيت صالحة للزراعة، ولا الثانية التي تحول سخام قدورها إلى سخام قذائف وعبوات ناسفة.
ولعل المقتنعين بالخيار العسكري كانوا واهمين في مواقفهم السياسية وطموحاتهم السرمدية في بناء مدينة فاضلة داخل الأنبار، يطالبون أن يكون الحل السوري "سياسياً"، ويفضلون أن يكون الحل في الأنبار عسكرياً. ومن المثير للسخرية أن الحكومة تريد أن تتبنى مشروع القضاء على التطرف الديني، ومواقفها السياسية وقرارتها تشير عكس ذلك، فتجليات الخيار العسكري ستكون واضحة في الأنبار بعد الانتخاب، ما يدفع نحو صعود تيار سياسي سني أكثر راديكالية تلبية لانحيازات ومواقف الأهالي التي غدا انحيازها المتشدد والمتطرف واضحا على الساحة "السنية" إذا صح التعبير.
وإذا كان الحل العسكري، الحل الوحيد الذي تراه الحكومة مناسباً وأكثر واقعية بالنسبة لها، عندها سيكون"صويحب" في مدن اخرى شهدت إستقراراً نسبياً في هذه الفترة، وسيعم رماد القذائف على عموم مدن المحافظة. بعدها لم تعد هناك مدن خارج أسوار الحرب، ولم تعود الرمادي رمزاً لرماد قدورها، و"صويحب" الفلوجة سيكتفي بعبواته الناسفة ويترك زراعة النخيل في أيامه القادمة.